12/08/2023 - 11:00

إيقاعات الموسيقى: تصوّرات عربيّة | حوار إسماعيل داوود

إيقاعات الموسيقى: تصوّرات عربيّة | حوار إسماعيل داوود

إسماعيل داوود من حفل «ليالي الطرب في قدس العرب» | تصوير: مجدي جلدة

 

* الأغاني التصويريّة لا تزال تحتفظ بمكانتها في المسلسلات والأفلام العربيّة.

* نحن في حاجة إلى عصر آخر مثل العصر الذهبيّ للموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة.

* إذا أصبح الإبداع والممارسة الموسيقيّة فعلًا تجاريًّا، فإنّه يهبط إلى الميوعة والسطحيّة.

 

في البداية، وقفت كثيرًا أمام تساؤل: لِمَ لا نكتب عن الموسيقى؟ وهل تسامحنا عن انغماسنا فيها دون أن نتأمّلها كتابة ونقدًا؟ وفي أيّ موسيقى كنت أفكّر؟ وأيّها جال في خاطري الآن؟ وأيّها استقرّ في أذني وقلبي؟ وتساءلت: هل ثمّة مدعاة إلى تأمّل الموسيقى، خارج الدائرة الكلاسيكيّة النقديّة بين ما هو أدب وما هو فنّ؟ عاد بي هذا التساؤل إلى سنوات طفولة قرويّة، يخبرني فيها إيقاع أقدام الحمار عن قدوم والدي من الحصاد، وحفيف أوراق أشجار الزيتون عن قرب المطر، وعن إيقاع وقت هبوط قطرة الماء من سماء غزّة في البحر المتوسّط، وارتطامه بالقوارب الراسية في الميناء. لِمَ لَمْ أُسائِلْ تلك الإيقاعات كموسيقى في ذلك الوقت؟ لم أدركها مع أنّني تأمّلتها؟ إلّا أنّني لم أتأمّلها بشكلها الموسيقيّ، بل بإيقاعاتها في الروح والوقت. الآن، أفهم أنّ هذا الإيقاع هو فعل توقيت وتناغم. لكنّني، لمّا أدرك بعد كيف يتشكّل الوقت في الموسيقى بشكل أعمق؟ وهل يمكنني أن أرى جسدي المتحرّك خلال صحوه موسيقى، وأنّ سكونه أثناء النوم، حتّى موسيقى؟

فلنذهب أبعد من ذلك قليلًا، ماذا ستقول الموسيقى عن نفسها، إن أسكتنا أصواتنا وأنصتنا لها؟ كيف تحمل فردانيّتها وتفلسفها؟ وكيف تجدّد شكلها؟ أنقرؤها بقلوبنا أم بتحقيبها وزمنيّتها؟ أم نغوص في عوالمها؟ كيف عسانا أن نقتحم عزلة الموسيقى ونتشارك إيقاعيّتها؟ هل تعطينا الموسيقى من روحها وإبداعيّتها المبتكرة، إن أنصتنا فقط؟ إن تملّكنا فعل الصوت والوقت والإيقاع؟ هل نمتلك الشجاعة الكافية لنسأل: "من أين ’تبدأ‘ البداية؟ من الفكرة؟ من الشكل؟ هل يمكن الفصل بين ’الفكرة‘ و’الشكل‘ في العمل الفنّيّ؟"[1]، وكيف لهذا أن يخلق تنوّعًا إبداعيًّا وإيقاعيًّا متناغمًا، متأمّلًا في تصوّرات عوالمنا ’العربيّة‘ عن نفسها، في إيقاعيّة الموسيقى، مشكِّلة حدثيّات بدايتها والتحامها بموسيقى خصبة التأمّل والإنصات؟

هنا يأتي هذا الحوار بين فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة وإسماعيل داوود، الحاصل على دكتوراة في «الموسيقى والعلوم الموسيقيّة»، ويعمل محاضرًا أكاديميًّا في جامعتَي «الأزهر» و«القدس المفتوحة» في مدينة غزّة؛ لمحاولة البحث في إيقاعات الموسيقى وتنوّعها إبداعيًّا، ورؤاها النقديّة العربيّة.

 

فُسْحَة: لماذا لا نكتب عن الموسيقى بشكل نقديّ؟

إسماعيل داوود: لا يكتب عن الموسيقى بشكل نقديّ إلّا الباحثون الأكاديميّون في الدراسات الإنسانيّة النقديّة بعامّة، والباحثون في موسيقى الشعوب وعلم الاجتماع بخاصّة. وهؤلاء مَنْ تفتقدهم الحالة النقديّة في قطاع غزّة، غير أنّ وجود قلّة منهم يحمل بصيص أمل، يحثّنا على التمسّك به. إضافة إلى ذلك، فإنّ الكتابة النقديّة تحمل رسالة إلى الجهات المختصّة في مجال الموسيقى، تتعلّق بضرورة تحسين عمل ما، أو تغيير إستراتيجيّة معيّنة، أو وجهة نظر ثاقبة من مصلحتها التأثير إيجابيًّا، وتطوير الإنتاج الموسيقيّ في الموضوع الّذي يُنْقَد، على اختلافه من ناقد إلى آخر.

 

فُسْحَة: هل نحن في حاجة إلى كلاسيكيّة جديدة في الموسيقى العربيّة؟ وكيف نُعرّف الموسيقى الكلاسيكيّة؟ أليس من بدّ من المقابلة مع الكلاسيكيّة الأوروبّيّة، أم أنّ هذا التقابل اعتراف بالهامش، وبحث عن التقبّل؟

داوود: نعم، نحن في حاجة إلى عصر آخر مثل العصر الذهبيّ للموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة، في ظلّ انتشار موسيقى سريعة قشوريّة لا يتوفّر فيها العمق والجودة اللذان يُكسبانها الأصالة والروعة. في رأيي، العصر الكلاسيكيّ يمشي بالتوازي في العالمين الغربيّ والعربيّ. ثمّ إنّ مقوّمات التأليف والتلحين والعزف لا تختلف في المقاييس والمعايير الّتي تجعل منها موسيقى ذات أصول وتاريخ عريق؛ إذ إنّ العصر الكلاسيكيّ عصر رواج الفنّ الأصيل المبنيّ على القواعد الأساسيّة، وهو المنهل والقاعدة المتينة للموسيقى بعامّة.

يمكننا التعرّف إلى الموسيقى الكلاسيكيّة عبر كلمتها، ولحنها، وجودتها، وعمقها، وجمالها. وأعتقد أنّ الوقت الراهن امتداد للكلاسيكيّة؛ لأنّها هي دائمًا الأساس. إنّ التنوّع الموسيقيّ الضخم المتوافر حاليًّا جزء من هذه الكلاسيكيّة، إلّا أنّه يأتي بنسب معيّنة من حيث مستوى الجودة والتقبّل لدى النقّاد ومستمعي الموسيقى.

 

فُسْحَة: يتحدّث أدورنو عن الجاز والروك أند رول؛ باعتبارهما قبحًا موسيقيًّا في نقده للموسيقى الأوروبّيّة الحديثة، وبالقبح يقصد عدم التجانس في النوتات الموسيقيّة، ودخول الموسيقى الكهربائيّة والإيقاعات الإلكترونيّة؛ أثمّة قبح موسيقيّ في رأيك، أم أنّه تباين في الأذواق؟ وكيف لهذا أن يخلق إبداعًا موسيقيًّا؟

داوود: بالطبع ليس قبحًا، بل هو تباين في الأذواق والأنماط والجمال، على مَنْ ألفوا السماع للسيمفونيّات والأوبرات؛ فلا يبقى شيء على حاله وشكله. ويمكن قراءة ما اسْتُحْدِث من أنماط باعتباره حاملًا للرسائل الاجتماعيّة والإنسانيّة، ويمثّل فئات معيّنة من المجتمع. تجد في هذه الموسيقى تعبيرًا عن كينونتها ووجودها لا يجوز إلغاؤه أو تحقيره. لكنّ الأفضل البحث فيه عن مواطن الأصالة والحداثة الّتي فُرِضَت على جميع القطاعات، في ظلّ وجود التكنولوجيّات الحديثة وتطوّرها؛ من آلات كهربائيّة وغيرها. ويَحْسُن الانتباه إلى التطوّر في أسلوب التلحين والتأليف في هذه الأنماط، مثل تطوّر علم «الهارموني» و«الكنتربوينت» الّتي تُبْنى عليها هذه الأنماط، وتطوّرها حمل فردانيّتها واختلافاتها الّتي ملكت طابعها الخاصّ، وجمالها الّذي يجعلها تنتشر ويتداولها الآخرون.

 

فُسْحَة: يناقش نجيب المانع في كتابه «في الموسيقى والأدب» فكرة الذوق الموسيقيّ، ويتدرّج في حديثه عن حالة الإبداع الموسيقيّ؛ باعتبارها إبداعًا بحتًا دون التطلّع إلى عائد مادّيّ أو شخصيّ. وإن اقترنت بالبحث عن العائد المادّيّ والشخصيّ، فسيقع الإبداع الموسيقيّ في فخّ ما أسماه الذوق التجاريّ والميوعة العاطفيّة؛ ففي رأيك، هل من الممكن أن تنجو الموسيقى من هذا الفخّ؟ وهل يجوز اعتبار ما يختلف عن الذوق الموسيقيّ للآخر حالة من القبح، وأن تُقابَل بالرفض؟

داوود: صحيح، إذا أصبح الإبداع والممارسة الموسيقيّة فعلًا تجاريًّا، فإنّه يهبط إلى الميوعة والسطحيّة، وتصبح الموسيقى في سقوط واضمحلال، ولا يتداولها إلّا فئة معيّنة من الجمهور. وفي المقابل، تحوز على سخط بقيّة الجمهور؛ لأنّ الجهات التجاريّة المنتجة هي الّتي تتحكّم في ذوق الناس والشباب، وتوجّههم حسب سياسة فنّيّة معيّنة، إن لم تكن مدروسة وذات هدف نبيل فستُسْقِط الموسيقى في فخّ القبح والسوقيّة. وسيليها غزو الإنتاج الموسيقيّ بأنماط دخيلة عليه، بل متداولة بكثرة أيضًا. غير أنّ هذه الموسيقى تتلاشى شيئًا فشيئًا حين يرفضها الجمهور؛ إذ إنّ كثيرًا من هذه الموسيقات لم يصمد تجاريًّا ولا اجتماعيًّا.

 

فُسْحَة: هل حملت ثورات الربيع العربيّ غضبًا كافيًا لتحفيز الموسيقى الشعبيّة أو الشعبويّة المقاوِمة مثل الجاز والروك أند رول؟ وهل ترى هذه الموسيقى كافية للتعبير عن شباب الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين؟

داوود: في الحقيقة، لم تحمل الغضب الكافي، وأعتبر تلك الفترة فترة ضعف في الإنتاج الموسيقيّ المقاوِم، على مستوى أغنية جيّدة ملتزمة هادفة تستلهم القوى، وتعبّر عن أيديولوجيّة معيّنة خاصّة أو عامّة. وإنّما اقتصر الإنتاج الغنائيّ على أغاني الراب الّتي لاقت رواجًا كبيرًا. وتُعْتَبَر هذه الأغاني هي الّتي تعبّر عن شباب الثورات العربيّة، في الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين. وأرى أنّ ذلك يرجع إلى انقسام الجمهور بين مؤيّد ومعارض لها.

 

فُسْحَة: هل التوجّه فلسطينيًّا إلى الراب حالة جديدة من مقارعة السلطة؟ أهو حالة من التعبير عن الغضب، والتمرّد على المراقبة، كما أشار فوكو؟

داوود: هذا مثال للأغنية التجاريّة الصرفة؛ فيها هبوط في الكلمة واللحن، على منوال أغاني الجيل الجديد، الّذي يتفاعل مع هذه النوعيّة من الأغاني الّتي يرى فيها تعبيرًا عن نفسيّته وحالته العاطفيّة، والفراغ الّذي يعيش فيه بلا شيء. هذا يعبّر أيضًا عن الفراغ الموسيقيّ؛ فالشباب يطلب الآن الأغنية العامّيّة السريعة البسيطة، يغنّيها ويتفاعل معها بعيدًا عن السياسة ومقارعة السلطة. هذه ليست أغنية سياسيّة أو نقديّة؛ هذه تُسَمّى الأغنية العاطفيّة الاجتماعيّة. وثمّة أغانٍ تعبّر عن حالة سياسيّة معيّنة مثل ما يقدّمه شادي البوريني وقاسم النجّار. غير أنّ الأغاني المصريّة الشعبيّة حاليًّا، هي الّتي طغت على مجتمعنا عند فئة الشباب، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فالأغاني العراقيّة والسوريّة كلّها تدور في فلك واحد بلا تجديد؛ فقط لغاية تفريغ الطاقة، ومواضيعها تلامس الشباب بدون جملة لحنيّة جميلة مبدعة تُغَنّى بأسلوب سرديّ، مثل نمط الراب، لكن بروح عربيّة شرقيّة خالية من الهدف والتوجيه، وهذا ما ينقص الأغنية العربيّة الآن!

 

فُسْحَة: كيف يُنْظَر أكاديميًّا إلى الموسيقى التصويريّة للأفلام والمسلسلات العربيّة حاليًّا، خاصّة مع تراجع استخدامها مقارنة بسبعينات القرن الماضي، وصولًا إلى بدايات القرن الحادي والعشرين؟ هل تطغى أغاني التتر والأغاني الفرديّة على الموسيقى التصويريّة لعمل دراميّ إبداعيّ؟

داوود: بالعكس، الأغاني التصويريّة لا تزال تحتفظ بمكانتها في المسلسلات والأفلام العربيّة؛ إذ إنّها أكاديميًّا تتطلّب كثيرًا من المعرفة والخبرة في الأجراس الموسيقيّة، والتعبير الموسيقيّ القويّ، على مستوى الإبداع والمهارة في بناء الجملة الموسيقيّة أو الغنائيّة؛ حين تظهر المعاني الخفيّة للألحان من خلال الموضوع والنصّ؛ فتجد الموسيقى التصويريّة لحنًا مكمّلًا يمشي بالتوازي مع معنى النصّ، ويُظهره بشكل فنّيّ لحنيّ يستعمل فيه جميع الأدوات الموسيقيّة. كذلك التترات والأغاني الفرديّة، حيث أصبحت تترات المسلسلات لحنًا يركّز فيه المخرج أو مُعِدّ الموسيقى على جمل موسيقيّة تلامس أحاسيس المشاهدين، فيحفظها، وتصبح متداولة بين الجمهور من شدّة جمالها. وهذا يُعْتَبَر نجاحًا للمسلسل أو الفيلم، حيث الإبداع ليس فقط في التمثيل والإخراج بل في الموسيقى التصويريّة أيضًا، الّتي تجذبك إلى مشاهدة هذا العمل السينمائيّ أو الدراميّ. وهنالك الكثير، مثلًا: «رأفت الهجّان» (1988)، و«أرابيسك» (1994)، و«ليلة القبض على فاطمة» (1982)، و«حارة المحروسة» (1996)، و«سنوات الضياع» (2005).

 

فُسْحَة: كيف ترى الموسيقى، الآن، إبداعيًّا؟

داوود: نسبة الإبداع وطبيعته الآن اختلفت عن ذي قبل؛ فمعايير الإبداع نفسها تبدّلت، وأصبح ثمّة معايير أخرى تحتكم إلى الواقع الجديد، وإلى الأدوات الجديدة، وإلى التقنيّات التكنولوجيّة، وإلى مقوّمات المجتمع، والحياة الجديدة المعاصرة على مستوى النصّ واللحن والتوزيع والأداء. فمثلًا، سابقًا كانت مدّة الأغنية تتجاوز نصف الساعة والساعة، أمّا اليوم فلا تتجاوز الدقائق الخمس. طبعًا لا نلغي أنّ الإنتاج الموسيقيّ خالٍ من الإبداع الآن، بالعكس، نرى إبداعًا وجمالًا في بعض الأغاني، ولكن تأخذ وقتًا معيّنًا وتنتهي وتُنْسى، وتأتي أغانٍ أخرى، وهكذا دواليك.

ثمّة كلمة ولحن وإبداع، إلّا أنّه كان يتأتّى ذاتيًّا من عصارة قريحة المغنّي والملحّن والشاعر، لكن اليوم طغت التكنولوجيا على كلّ شيء؛ هي الّتي تعزف، وتلحّن، وتوزّع. وأصبح الموسيقيّ يعاني من بطالة في مجتمعنا، ينتظر العمل في الأعراس والحفلات الخاصّة؛ ليحصل على المال ليقضي حاجاته ومتطلّباته، في ظلّ غياب احتضان المؤسّسات المسؤولة للفنّانين وتبنّيها إيّاهم، وتقديم الخدمات لهم، الّتي يتكفّلون بها مثل بقيّة الدول المتقدّمة، الّتي تحترم خدمة الفنّ والفنّانين.

 


إحالات

[1] أدونيس، موسيقى الحوت الأزرق: الهويّة، الكتابة، العنف، (بيروت، دار الآداب، ط2، 2011)، ص 15.

 


 

منى المصدر

 

 

شاعرة وكاتبة فلسطينيّة تعيش في قطاع غزّة. صدر لها عن الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (الأهليّة، 2020)، «أعدّ خطاي» (فضاءات، 2017). 

 

 

التعليقات